دع الأَيّام تفعلْ ما تشاء
من حِكم الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه
________________________________________
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ * وَطِبْ نَفْسَاً إِذَا حَكَمَ القَضَاءُ
وَلاَ تَجْزَعْ لِحَادِثَةِ اللَّيَالِي * فَمَا لِحَوادِثِ الدُّنْيَا بَقَاءُ
وََكُنْ رجُلاً عَلَى الأَهْوَالِ جَلْداً * وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةُ وَالوَفَاءُ
وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ فِي البَرَايَا * وَسَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا غِطَاءُ
يُغَطّى بِالسَّمَاحَةِ كُلُّ عَيْبٍ * وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ
وَلاَ حُزْنٌ يَدُومُ وَلاَ سُرُورٌ * وَلاَ بُؤْسٌ عَلَيْكَ وَلاَ رَخَاءُ
وَلاَ تُرِ لِلأَعادِي قَطٌّ ذُلاًّ * فَإِنَّ شَمَاتَةَ الأَعْدَا بَلاّءٌ
وَلاَ تَرْجُ السَّمَاحَةَ مِنْ بَخِيلٍ * فَمَا فِي النَّارِ لِلظَّمْآنِ مَاء
ُ وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَّأَنِّي * وَلَيْسَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ العَنَاءُ
إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعٍ * فَأَنْتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَواءُ
وَمَنْ نَزَلتْ بِسَاحَتِهِ المَنَايَا * فَلاَ أَرْضٌ تَقِيهِ وَلاَ سَماءُ
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ وَلكِنْ * إِذَا نَزَلَ القَضَا ضَاقَ الفَضَاءُ
دَعِ الأَيَّامَ تَغْدُرْ كُلَّ حِيْنٍ * وَلاَ يُغْنِي عَنِ المَوْتِ الدَّوَاءُ
إِذَا أَصْبَحْتُ عِنْدِي قُوَتُ يَوْمِي * فَخَلِّ الهَمَّ عَنِّي يَا سَعِيدُ
وَلاَ تَخْطِرْ هُمُومُ غَدٍ بِبَالِي * فَإِنَّ غَدَاً لَهُ رِزْقٌ جَدِيدُ
أَسَلِّمُ إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَمْرَاً * فَأَتْرُكُ مَا أُرِيدُ لِمَا يُرِيدُ
وَمَا لإرَادَتِي وَجْهٌ، إِذَا مَا * أَرَادَ اللَّهُ لِي مَا لاَ أُرِيدُ
تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فَي طَلَبِ العُلَى * وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ، واكْتِسَابُ مَعِيْشَةٍ * وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصْحْبَةُ مَاجِدِ
فَإِنْ قِيلَ فِي الأَسْفَارِ ذُلٌّ وَمِحْنَةٌ * وَقَطْعُ الفَيَافِي وَارْتِكَابُ الشَّدَائِدِ
فَمَوْتُ الفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ * بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدِ
مِحَنُ الزَّمَانِ كَثِيرةٌ لاَ تَنْقَضِي * وَسُرُورُهُ يَأْتِيكَ كَالأَعْيَادِ
مَلَكَ الأَكَابِرَ فَاسْتَرَقَّ رِقَابهَمُ * وَتَرَاهُ رَقِّاٌ فِي يَدِ الأَوْغَادِ
يَا مَنْ تُحَلُّ بِذِكْرِهِ * عُقَدُ النَّوَائِبِ وَالشَّدَائِد
ْ يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى * وَإِلَيْهِ أَمْرُ الخَلْقِ عَائِد
يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا * صَمَدٌ تَنَزَّهَ عَنْ مُضَادد
ْ أَنْتَ الرَّقِيبُ عَلَى العِبَا * دِ وَأَنْتَ في المَلَكُوتِ وَاحِدْ
أَنْتَ العَلِيمُ بِمَا بَلَيْـ * ـتَ بِهِ وَأنْتَ عَلَيْه شَاهِدْ
أَنْتَ المُعِزُّ لِمَنْ أَطَا * عَكَ وَالمُذِلُّ لِكُلِّ جَاحِد
ْ أَنْتَ الْمُنَزَّهُ يَا بَدِيعَ الخَلْقِ * عَنْ وَلَدٍ وَوَالِدْ
إِنِّي دَعَوْتُكَ وَالهُمُو * مُ جُيُوشُهَا قَلْبِي تُطَارِد
ْ فَرِّجْ بحَوْلِكَ كُرْبَتِي * يَا مَنْ لَهُ حُسْنُ العَوَائِدْ
فَخَفِيُّ لُطْفِكَ يُسْتَعَا * نُ بِهِ عَلَى الزَّمَنِ المِعَانِد
ْ أَنْتَ الْمُيَسِّرُ وَالمُسَبِّبُ * وَالْمُسَهِّلُ وَالمُسَاعِد
يَسِّرْ لَنَا فَرَجَاً قَرِيْبَاً * يَا إِلهِي لاَ تُبَاعِد
ْ كُنْ رَاحِمي فَلَقَدْ أَيِسْتُ * مِنَ الأَقَارِبِ وَالأَبَاعِدْ
ثُمَّ الصَلاةُ عَلَى النَّبِيِّ * وَآلِهِ يَا خيرَ سَاجِد
لقلعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ * ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمسِ
ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ * وَبيْعُ دارٍ بربعِ فلسِ
وبَيْعُ خفٍ وعدم إِلفٍ * وضَرْبُ ألفٍ بحبلِ قلسِ
أهونُ من وقفةِ الحرِّ * يرجو نوالاً ببابِ نحسِ
تموتُ الأسدُ في الغاباتِ جُوعاً * ولَحْمُ الضأنِ تأكلُهُ الكِلابُ
وعبدٌ قد ينامُ على حريرٍ * وذو نَسَبٍ مَفَرِشُه الترابُ
أرى حُمُراً ترعى وتعلفُ ما تهوى * وأُسْداً جياعاً تظمأ الدهرَ لا تروى
وأشرافُ قومٍ لا ينالونَ قوتَهمْ * وقوماً لئاماً تأكلُ المنَّ والسَّلْوى
قضاءٌ لديانِ الخلائقِ سابقٌ * وليس على مُرِّ القضاءِ أحدٌ يَقْوى
فمن عَرَفَ الدهرَ الخؤونَ وصرفُ * تَصَبَّرَ للبلوى ولم يُظْهِرِ الشكوى
لا يدركُ الحِكْمةَ من عْمرُه * يكدحُ في مصلحةِ الأهلِ
ولا يَنَالُ العلمَ إِلا فتى * خالٍ من الأفكارِ والشغلِ
لو أن لقمانَ الحكيمَ الذي * سارَتْ به الركبانُ بالفضلِ
بُلي بفقرٍ وعيالٍ لما * فرَّقَ بين التَّبْنِ والبقَلِ
وداريتُ كلَّ الناسِ لكنْ حاسدي * مُداراتهُ عَزَّتْ وعزَّ منالُها
وكيفَ يداري المرءُ حاسدَ نعمةٍ * إِذا كان لا يُرضيهِ إِلا زوالهُا
لم يبرحِ الناسُ حتى أحدثوا بِدَعاً * في الدينِ بالرأيِ لم يَبْعَثْ بها الرُّسْلُ
حتى استخفَّ بدين اللّهِ أكثرُهم * وفي الذي حملوا من حقهِ شغلُ
الدهرُ يومانِ ذا أمْنٍ وذا خَطَرٍ * والعيشُ عيشانِ ذا صَفوٍ وذا كَدَرٍ
إِن كنتَ تغدو في الذنوبِ جليدا * وتخافُ في يومِ المعادِ وعيدا
فلقد أتاكَ من المهين عفوُةُ * وأفاضَ من نعمٍ عليكَ مزيدا
لا تيأسْ من لُطْفِ ربكَ في الحشا * في بطنِ أمكَ مِضغةً ووليدا
لو شاءَ أن تصلى جهنمَ خالداً * ما كان ألهمَ قلبكَ التوحيدا
توكلتُ في رزقي على اللّهِ خلقي * وأيقنْتُ أن اللّهَ لاشكَّ رازقي
وما يكُ من رزقي فليس يفوتُني * ولو كانَ في قاعِ البحارِ العوامقِ
سيأتي به اللّهُ العظيمُ بفضلِه * ولولم يكنْ مني اللسانُ بناطقِ
ففي أيِّ شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرةٌ * وقد قسمَ الرحمنُ رزقَ الخلائقِ
كم ضاحكٍ والمنايا فوقَ هامتِه * لو كانَ يعلمُ غيباً ماتَ من كمدِ
من كانَ لم يؤتَ علماً في بقاءِ غدٍ * ماذا تفكرهُ في رزقِ بعد غدِ؟
إِذا اصْفَرَّ لونُ المرءِ وابْيَضَّ شَعرُه * تَنَغَّصَ من أيامِه مُسْتطابُها
فدعْ عنكَ سوءاتِ الأمورِ فإِنها * خرامٌ على نفسِ التقى ارتكابُها
وأدِّ زكاةَ الجاهِ واعلمْ بأنها * كمثلِ زكاةِ المالِ تم نِصابُها
كنْ سائراً في ذا الزمانِ بسَيْرِه * وعن الورَى كنْ راهباً في دَيْرهِ
واغسلْ يديْكَ من الزمانِ وأهلِه * واحذرْ مودتهمِ تنلْ من خيرهِ
عِفُّوا تعفَّ نساؤكم في المَجْرَمِ * وتَجَنَّبوا ما لا يليقُ بمسلمِ
إِن الزِّنا دَيْنٌ فإِن أقرضْتَه * كان الوفا من أهلِ بيتك فاعلمِ
من يَزن يزنَ به ولو بجدارهِ * إِن كنْتَ ياهذا لبيباً فافهمِ
إذا المرءُ سِرَّهُ بلسانهِ * ولامَ عليه غيرَهُ فهو أحمقُ
إِذا ضاقَ صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسِه * فصدرُ الذي يستودعُ السرَّ أضيقُ
متاركةُ السفيهِ بلا جَوَابٍ * أشَدُّ على السفيهِ من الجوابِ
إِذا نطقَ السفيهُ فلا تجبْهُ * فخيرٌ من إِجابتِه السكوتُ
سكتُ عن السفيهِ فظنَّ أني * عييت الجوابِ وما عييتُ
فإِن كَلَّمْتهُ فَرَّجْتَ عنه * وإِن خليته كمداً يموتُ
شرارُ الناسِ لو كانوا جميعاً * قذىً في جَوْفِ عيني ماقديتُ
فلستُ مجاوباً أبداً سَفيهاً * خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ
ومنزلةُ السفيهِ من الفقيهِ * كمنزلةِ الفقيهِ من السفيهِ
فهذا زاهدٌ في قربِ هذا * وهذا فيه أزهدُ منه فيهِ
إِذا غلبَ الشقاءُ على سفيهٍ * تقطعَ في مخالفةِ الفقيهِ
سلامٌ على الدنيا إِذا لم يكنْ بها * صديقٌ صدوقٌ صادق الوعدِ منصفا
الشافعي
إِذا المرءُ لا يرعَاكَ إِلا تكلفاً * فدعْهُ ولا تُكْثِرْ عليه التَّأَسُّفا
ففي الناسِ أبدالٌ وفي الترك راحةٌ * وفي القلبِ صبرٌ للحَبيْبِ ولو جَفا
فما كُلُّ من تَهْواهُ يهواكَ قلبهُ * ولا كُلُّ من صافيتَهُ لك قد صَفا
لم يبقَ في الناسِ إِلا المكرُ والملقُ * شوكٌ إِذا لمسُوا زهرٌ إِذا رَمَقوا
فإِن دعتكَ ضروراتٌ لِعْشرتهمْ * فكن جَحيماً لعل الشَّوْكَ يحترقُ
صديقٌ ليس ينفعُ يومَ بؤسٍ * قريبٌ من عَدُوٍ في القياسِ
وما يبقى الصديقُ بكُلِّ عصرٍ * ولا الإِخوانُ إِلا للتأسي
عمرْتُ الدهرَ ملتمساً بجهدي * أخا ثقةٍ فألهاني التماسي
تنكرتِ البلادُ ومن عليها * كأن أناسُها ليسوا بناسي
إِذا لم أجدْ خِلاً تقياً فوحدتي * ألذُّ وأشهى من غويٍ أعاشرْ
وأجلسُ وحدي للعبادةِ آمنا * أقرُّ لعيني من جليسٍ أحاذرهْ
إِني اطلعْتُ فلم أجدْ لي صاحباً * أصحبُهُ في اللّهِ ولا في غيره
فتركتُ أسفلَهم لكثرةِ شرِّه * وتركْتُ أعلاهم لقلةِ خَيْره
ولما أتيتُ الناسَ أطلبُ عندَهمْ * أخاثقةٍ عندَ ابتلاءِ الشدائدِ
تطلعتُ في دَهْرَيْ رخاءٍ وشدةٍ * وناديْتُ في الأحياءِ هل من ساعدِ؟
فلم أرَ فيما ساءني غيرَ شامتٍ * ولم أرَ فيما سرني غيرَ حاسدِ
إِني صحبْتُ الناسَ مالهم عددٌ * وكنْتُ أحسبُ أني قد ملأتُ يدي
لما بلوتُ أخلائي وَجْتُهُمُ * كالدهرِ في الغَدْرِ لم يبقوا على أحدِ
إِن غبتُ عنهم فشَرُّ الناسِ يشتمني * وإِن مرِضْتُ فخيرُ الناسِ لم يعدِ
وإِن رأوني بخيرٍ ساءَهم فَرَحي * وإِن رَأَوني بشَرٍّ سَرَّهُمْ نكَدي
قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلت لهم * إِن الجوابَ لبابِ الشرِّ مفتاحُ
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ * وفيه أيضاً لصونِ العرض إِصلاحُ
أما ترى الأسدَ وهي صامتةٌ؟ * والكلبُ يحُسى لعَمْري وهو نباحُ
وجدْتُ سكوتي متجراً فلزمتهُ * إِذا لم أجدْ ربحاً فلسْتُ بخاسرِ
وما الصمتُ إِلا في الرجالِ متاجرٌ * وتاجرُهُ يعلو على كلِّ تاجرِ
أمتُّ مطامعي، فأرحْتُ نفسي * فإِن النفسَ ما طمعتْ تهونُ
وأحببتُ القنوعَ وكان ميتاً * ففي إِحيائهِ عرضي مَصُون
إِذا طمعٌ يحل بقلبِ عبدٍ * علته مهانةٌ وعلاهُ هونُ
وربَّ ظلومٍ قد كفيت بحربه * فأوقعَهُ المقدورُ أيَّ وقوع
وحسبُكَ أن ينجو الظلومُ وخلفَهُ * سهامُ دعاءٍ من قسيِّ ركوعِ
إِذا ما ظالم استحسنَ الظلمَ مذهباً * ولجَّ عتواً في قبيح اكتسابهِ
فكِلْه إِلى صرفِ الليلي فإِنها * ستدعي له ما لم يكن في حسابه
فكمْ قد رأينا ظالماً متمرداً * يرى النجمَ تيهاً تحتَ ظلِّ ركابهِ
فما قليلٍ وهو في غفلاتِه * أناختْ صروفُ الحادثاتِ ببابهِ
فأصبحَ لا مالَ ولا جاهَ يرتجى * ولا حسنات تلتقلي في كتابهِ
وجوزيَ بالأمرِ الذي كان فاعلاً * وصبَّ عليه اللّهُ سوطَ عذابهِ
أتهزأُ بالدعاءِ وتزدريْهِ * وماتدري بما صنعَ الدعاءُ
سهامُ الليلِ لاتخطي ولكن * لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
كلما أدبني الده * رُ (الدهر) أراني نقصَ عقلي
وإِذا مازدتُ عِلْماً * زادني عِلْماً بجهلي
إِذا ما كنتَ ذا فضلٍ وعلمٍ * بما اختلفَ الأوائلُ والأواخرْ
فناظرْ من تناظرُ في سكونٍ * حَليماً لاتلحُّ ولا تكابرْ
يفيدكَ ما استفادَ بلا امتنانٍ * من النكتِ اللطيفةِ والنوادرْ
اللجوجَ ومن يرائي * بأني قد غلبتُ ومن يفاخرْ
فإِن الشرَّ في جنباتِ هذا * يميني بالتقاطعِ والتدابرْ
حسبي بعلمي أن نفعْ * ما الذلُّ إِلا في الطمعْ
من راقبَ اللّهَ رجعْ * ما طارَ طيرٌ وارتفعْ
إِلا كما طارَ وقعْ
الشافعي
شكوتُ إِلى وكيعٍ سوءَ حِفظي * فأرشدني إِلى تَرْكِ المعاصي
وأخبرني بأن العلمَ نورٌ * ونورُ اللّهِ لا يُهدى لعاصي
رأيتُ العلمَ صاحبَه كريماً * ولو ولدَتْه آباءٌ لئامُ
وليس يزالُ يرفعُهُ إِلى أن * تعظمَ أمرهُ القومُ الكرامُ
ويتبعونه في كلِّ حالٍ * كراعي الضأنِ تتبعهُ السوامُ
فلولا العلمُ ما سعدتْ رجالٌ * ولا عُرفَ الحلالُ ولا الحرامُ
وعينُ الرِّضا عن كل عيبٍ كليلةٌ * ولكن عينَ السخطِ تبدي المساويا
ولسْتُ بهيابٍ لمن يهابني * ولست أرى للمرءِ ما لا يَرى ليا
فإِن تدنُ مني ندنُ منكَ مودتي * وإِن تنأ عني تلقني عنك نائيا
تغربْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلا * وسافرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ
تفرجُ همٍ واكتسابُ معيشةٍ * وعلمٌ وأدابٌ وصحبةُ ماجدِ
ارحلْ بنفسِك عن أرضٍ تضامُ بها * ولا تكنْ بفراقِ الأهلِ في حُرَقِ
من ذلَّ بين أهاليه ببلدتهِ * فالاغترابُ له من أَحسنِ الخلقِ
الكحلُ نوعٌ من الأحجارِ مُنْطرِحاً * في أرضِه كالثرى يبدو على الطرقِ
لما تغربَ نالَ العِزَّ أجمعهُ * وصارَ يُحْمَلُ بين الجفنِ والحدَقِ
إِن الفقيهَ هو الفقيهُ بفعلِهِ * ليس الفقيهُ بنطقِه ومقالهِ
وكذا الرئيسُ هو الرئيسُ بخلقِه * ليس الرئيسُ بقومهِ ورجالهِ
وكذا الغني هو الغني بحالِه * ليس الغَنِيُّ بملكهِ وبمالهِ
واللّهِ لو عاشَ الفتى في دهرِه * ألفاً من الأعوامِ مالك أمرهِ
متلذذاً فيها بكلِّ عجيبةٍ * متمتعاً فيها لغيةِعُمْرِه
لم يعرفِ الأسقامَ فيها مرةً * أيضاً ولا خطرَ الهمومُ بفكرِه
ما كان هذا كلُّه بجميعه * بَمبيتِ أول ليلةٍ في قَبْرِه
دع الأيامَ تفعل ما تشاءُ * وطِبْ نفساً بما حَكَمَ القضاءُ
ولا تَجْزعْ لحادثِة الليالي * فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكن رجلاً على الأهوالِ جَلْداً * وشيمتُكَ المروةُ والوفاءُ
وإِن كثرتْ عيوبُكَ في البرايا * وسرَّكَ أن يكون لها غطاءُ
تسترْ بالسَّخاءِ فكل عَيْبٍ * يغطيه كما قيلَ السخاءُ
ولا تِرُ للأعادي قطُّ ذلاً * فإِن شماتَةَ الأعداءِ بلاءُ
قدرُ اللّهِ واقعٌ * حيثُ يقضى ورودُه
قد مضى فيكَ حكمُهُ * واقضى ما يُرِيْدُهُ
وأخو الحِرْصِ حرصه * ليس مما يزيدهُ
فأرادْ ما يكونُ إِذا * لم يكنْ ما تُريدُه
ولا ترجُ السماحةَ من بخيلٍ * فما في النارِ للظمآنِ ماءُ
-إِذا كنتَ ذا قلبٍ قنوعٍ * فأنت ومالكُ الدنيا سواءُ
-وأرضُ اللّهِ واسعةُ ولكن * إِذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ
-دعِ الأيامَ تغدرُ كُلَّ حينٍ * فما يُغْني عن الموتِ الدواءُ
>
ماحكَّ جلدَكَ مثلُ ظفرِك * فتولَّ أنتَ جميعَ أمرِكْ
-وإِذا قصدْتَ لحاجةٍ * فاقصدْ لمعترفٍ بقدركْ
رأيتُ القناعةَ رأسَ الغِنى * فصرتُ بأذيالِها مُتْمَسِكْ
فلا ذا يراني على بابهِ * ولا ذا يراني به منهمِكْ
فصرتُ غنياً بلا درهمٍ * أمُرُّ على الناسِ شبه الملكْ
احفظْ لسانَكَ أيها الإِنسانُ * لا يقتلنكَ إِنه ثعبانُ
كم في المقاربِ من قتيلِ لسانهِ * كانت تخافُ لقاءَه الأقرانُ
ولرب نازلةٍ يضيقُ لها الفتى * ذَرْعاً وعندَ اللّهِ منها المخرجُ
ضاقتْ فلما استحكمَتْ حلقاتُها * فرِّجَتْ وكنْتُ أظنُّها لاتفرجُ
تعمدْني بنصحِكَ في انفرادي * وَجِّنْبني النصيحةَ في الجماعةْ
فإِن النصحَ بين الناسِ نوعٌ * من التوبيخِ لا أرضى استماعَهْ
وإِن خالفتني وعصيتَ قولي * فلا تجزعْ إِذا لم تُعْطِ طاعهْ
إِذا لم يكنْ صفوُ الودادِ طبيعةً * فلا خيرَ في خلٍ يجئ متكلِفا
ولا خيرَ في خلٍ يخونُ خليلَه * ويلقاهُ من بعدِ المودةِ بالجفا
وينكرُ عيشاً قد تقادمَ عهدُهُ * ويظهرُ سراً بالأمسِ قد خَفا